قائد مسيرة التطوير… والتفصيل الداخلي

في إحدى زوايا التاريخ التي نحتار فيها بين البكاء والضحك، هناك دكتاتور قرر أن يصنع معجزة القرن: تحويل بلاده إلى منصة عالمية لتصدير الجوع والفقر… والملابس الداخلية الفاخرة.
على مدار 24 عامًا، اعتلى القائد الملهم منصة الحكم كأنه عارض أزياء محترف. كانت طلاته تُبهر الجميع، ليس بفضل الإنجازات العظيمة أو المشاريع الكبرى، بل بفضل أزيائه الداخلية “الفاخرة”. تارة يُقال إنها من الحرير الياباني، وتارة أخرى يدعي أنها مُطرزة بأيدي نساء القرية التي لا تجد حتى ماءً للشرب. أما الشعب، فقد كان مشغولًا بمحاولة فهم “الرمزية الثورية” لهذه القطع النادرة.
ولأن القائد لا يرضى بشيء عادي، استدعى أشهر المصورين المهرة، لا لالتقاط صور لبلاده المنهارة أو لشعبه الذي يعيش تحت خط الفقر، بل لتوثيق سراويله الداخلية من كل زاوية. كان المصورون يقفون بأحدث المعدات، يلتقطون تفاصيل دقيقة لهذه الروائع “الوطنية”، حتى إن أحدهم اقترح استخدام الصور كطوابع بريدية “تجسد مسيرة التطوير”.
“القائد الحكيم” لم يكن يهتم بصيحات الجوع القادمة من شعبه، فهو مشغول بصيحات الموضة. وأي شعب يجرؤ على التذمر من الجوع وهو يشاهد قائده يتألق في “مسيرة التطوير والتحديث”؟ ربما كان يعتقد أن رؤية قائدهم سعيدًا بملابسه الداخلية ستبعث الدفء في بطونهم الخاوية.
لكن لا يظنن أحد أن هذا القائد يقبل بأي نوع من المعارضة، خاصة عندما يتعلق الأمر بسياسة “السروال الوطني”! فقد كان يرى نفسه القائد الأوحد، المُلهم الذي لا يأتيه الباطل من بين قدميه ولا من خلف سرواله. وأي شخص تُسوِّل له نفسه الاعتراض على هذه السياسة كان مصيره المحتوم الدخول إلى معتقل ضخم مرعب أُطلق عليه اسم “المسلخ البشري”. هذا المكان لم يكن مجرد سجن عادي، بل مصنع لتصفية كل من يجرؤ على التشكيك في “قدسية السروال”. يقال إن البعض هناك كانوا يجبرون على ارتداء نسخ مقلدة من ملابس القائد الداخلية كنوع من العقاب النفسي.
ولم تقف سياسة “السروال المفدى” عند حدود الجوع والقمع فحسب، بل امتدت لتجعل الشعب فقيرًا في كل شيء: معرفيًا، فقد أُغلقت المدارس والمعاهد، واستُبدلت بمناهج تُدرس إنجازات القائد وسيرته “الداخلية”. طبيًا، أُهملت المستشفيات، وأصبح الشعب يتداوى بالتعاويذ والخطابات. أما ماديًا، فقد صودرت الثروات باسم “التطوير”، ليُصبح كل مواطن مجبرًا على شراء سروال وطني بسعر لا يتحمله إلا الأغنياء (الذين لم يعودوا موجودين أصلًا).
والطريف في الأمر أن هذا السروال، الذي اعتبره رمزًا للسيادة والعزة، لم يكن يخلعه إلا أمام أعدائه، لكن ليس لتهديدهم! بل لتقديم التنازلات التي تضمن له البقاء على كرسي الحكم. في كل مرة يواجه ضغطًا دوليًا أو أزمة، كان يهرع إلى طاولة المفاوضات، يخلع سرواله أمامهم رمزيًا – أو ربما حرفيًا – ليُظهر استعداده لأي شيء طالما أنهم يضمنون بقاءه على العرش.
ومع كل خطاب له، كان الناس يتساءلون: ما هو المشروع العظيم الذي سيُعلن عنه هذه المرة؟ مشروع لإعادة تدوير الجوع؟ أم ربما مصنع جديد لإنتاج السراويل الداخلية بطراز “وطني مقاوم للعقوبات”؟
في كل مرة كان يطلّ فيها بملابسه المزركشة، يخرج علينا بألقاب جديدة: “باني النهضة”، “مهندس التطوير”، “فارس السروال الداخلي”. أما مشاريع التطوير، فهي لا تتجاوز “رفع الأسعار” و”خفض الآمال”.
لم يكن هناك حدود لإبداع القائد. في عيده السنوي الرابع والعشرين للحكم، أعلن عن افتتاح متحف وطني للملابس الداخلية. داخل المتحف، عُلّقت سراويله إلى جانب لوحات تصور شعبه وهو يموت جوعًا. وبالطبع، اعتبر هذا المتحف “صرحًا حضاريًا” سيخلد ذكراه.